مما لا شك فيه أن ثورة شباب مصر الواعد المستنير فى الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 هو الحدث الأبرز والاهم على مستوى الشرق الأوسط إن لم يكن العالم فى الآونة الأخيرة ليس لأسبقيته فلقد سجلت أسبقية هذه الثورة وكتبت براءة اختراعها باسم الشعب التونسى الشقيق الذى يدين له شباب مصر بالعرفان والفضل فى شرارة البداية الملهمة لثورته المباركة والتى انطلقت صرخة مدوية شقت سكون العالم تنادى بالخبز والحرية والكرامة الإنسانية، ولان وضع مصر كثقل إقليمى كبير وحليف مهم للولايات المتحدة بالإضافة إلى وقوع مصر فى جوار إسرائيل - الابنة المدللة للعالم الغربى - أضاف شيئا من الحساسية والاختلاف على التجربة المصرية عما سواها من التجارب المشابهة، كما أن النظام المصرى حالة مختلفة تماما عن النظام التونسى فهو نظام ديكتاتورى عتيق لديه من السلطات اللامحدودة والأجهزة والمؤسسات ومختلف الآليات مما يجعل فكرة زحزحته عن كرسيه شبه مستحيلة بل أكاد اجزم أن النظام وصل إلى ذروة الغرور بحيث أصبح يتخيل أن هذا الشعب لا يستطيع أن يحيا دقيقة بدونه وان غيابه عن المشهد هو الهلاك المحقق للبلاد والعباد. وتتضح مظاهر اختلاف التجربة المصرية عن التونسية من مقارنة موقف أمريكا فى الحالتين حيث لاتزال تفضل أن تقبع فى المنطقة الرمادية والتى لا تقطع برأى بات يحدد موقفها سواء من الثورة أو النظام،حتى ترى النتيجة كما أنه عند قياس قدرة مؤسسات النظام بداية من المؤسسة الأمنية بأجهزتها المختلفة مرورا بالحزب الحاكم المتحكم فى المجالس النيابية وصولا إلى المؤسسة الإعلامية الرهيبة بالغة التأثير يدرك مدى اتساع قدرة النظام على المناورة والمداورة ومدى وفرة أوراق الضغط فى يديه مما يحقق مرونة فائقة عند الرغبة فى إجهاض هذه الثورة هذا فضلا على أن طبيعة الشعب المصرى والذى تزيد فيه نسبة الأمية عن 50% من عموم أفراده مصحوبة بانخفاض درجة الوعى والانكفاء التام على تحصيل لقمة العيش تمنح مجالا واسعا للسيطرة وقدرة كبيرة للنظام عند الرغبة فى تشكيل رأى عام مضاد للثورة.
وعلى كل الأحوال بدأت ثورة شباب مصر بنداء وجهه مجموعة من شباب الحركات السياسية والشباب العاديين الغير مسيسين القاسم المشترك الوحيد بينهم هو حب الوطن والرغبة فى التغيير على الفيس بوك لدعوى للتظاهر فى يوم 25 يناير والذى هو فى الأساس عيدا للشرطة -وهو أمر له دلالة واضحة- للتعبير عن غضبهم العارم من ممارسات النظام ومؤسساته وكذلك طلبا للتغيير والحرية وتمردا على أوضاع اقتصادية متردية ومستقبل لا يعد بأى شيء يشكل حافزا يرضى طموح هؤلاء الشباب.
وتكمن عبقرية ثورة شباب مصرفى نجاحها الغير متوقع فى زمن قياسى على هز أركان نظاماً راسخ منذ ثلاثون عاماً وجعله فى موقف لا يحسد عليه وإجباره على تقديم تنازلات يومية كان التفكير فى حدوثها فى الماضى دربا من دروب المستحيل، فكم قد جفت حلوق الكثير من القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فى النداء بهذه الإصلاحات ولم يستطيعوا أن يحققوا أى نجاح يذكر فى محاولاتهم تلك مما جعل منحنى اليأس يتصاعد ويصل لذروته مما جعل توقع الخلاص والتغيير من هذه الورطة لا يرد على بال بشر بل استطيع أن اجزم أن درجة نجاح هذه الثورة فى تحقيق أهدافها - المتيسر منها حاليا - فاق درجة توقع شباب 25 يناير أنفسهم. لكن اصطفاف كل طوائف الشعب خلف شبابه بما يحملونه من تراكمات السنين الماضية من قهر وفقر وغياب للحرية قدم زخما واستمرارية لهذه الانتفاضة الشبابية وأضاف إليها قوة من أجنحة سياسية مختلفة وجدت فى هذه الحركة المتنفس الوحيد للتعبير عن نفسها وعضد من هذه الجهود الغباء السياسى لبعض عرابى النظام والذين يستطيعون بكل سهولة نسف أى محاولة من النظام لتحسين موقفه أو محاولة كسب رأى عام مضاد من جموع بسطاء الشعب ضد ثورة شباب ميدان التحرير فلم تنجح حيلة الانفلات الأمنى المتعمد لنشر الرعب بين صفوف المواطنين ولم تنجح محاولة التضييق فى الحركة والانتقال وكذلك صعوبة العيش والمعيشة فى غياب الخدمات الأساسية فى خلق هذا التيار المضاد المنشود لاسيما مع مرور الوقت وملاحظة الازدياد فى تماسك حركة الشباب والالتفاف الشعبى حولها جنبا إلى جنب مع التطور النوعى فى أداءها ومفاجأة النظام دائما بحلول غير متوقعة لكل الألغاز التى يلقى بها على المسرح السياسى.
كما أن التحكم فى عامل الوقت واللعب عليه هو العنصر الأهم والأخطر فى خطة النظام لعبور موجة الغضب الشعبى حتى يستطيع تحقيق سيناريو تأمين الخروج وهو سيناريو مختلف عن الخروج الآمن مع احترامى الشديد للمحلل السياسى البارز الأستاذ/ عماد الدين أديب فى طرحه لهذا المفهوم وكونه صاحب السبق فى صك هذا التعبير حيث أن اكتساب الوقت هو الداعم الأكبر والمحدد لتأمين الخروج من لعبة سياسية انتهت بالفعل عندما لم تستطيع الشرطة وأجهزة الأمن فى قمع انتفاضة الشباب يوم 28 يناير 2011 فيما يعرف بجمعة الغضب وثبت بالفعل أن هذه الثورة ماضية قدما إلى النجاح حتى مع التغيير التكتيكى فى أسلوب المواجهة وتبنى نهج مغاير فى التعامل مع الشباب بمحاولة احتوائهم والتصريح بان مطالبهم هى مطالب مشروعة ومستحقة وقابلة للتنفيذ لكن الموضوع يحتاج إلى وقت مجرد وقت وتهدئة لتمكين الحكومة من فرض الاستقرار والأمان اللازم لتحقيق هذه المطالب المشروعة.
ولو كان هناك رغبة حقيقية فى الإصلاح ما احتاجت الأمور إلى التسويف والمناورة ولكانت الإجراءات المطلوبة دخلت حيز التنفيذ بقوة وتسلسل زمنى محكم يرضى جموع الشعب ولكن تقديم التنازلات من قبل النظام يتم قطرة بقطرة مما يشير بقوة إلى محاولة كسب الوقت والتى هى الهدف المرحلى الأهم لتنفيذ تأمين الخروج للنظام من الحياة السياسية بأقل الخسائر الممكنة وبشكل عام أفضل وأكرم من حالة الرئيس التونسى بن على مع محاولة وضع سيناريو مستقبلى لمن سيحكم مصر فى المستقبل والذى سوف يكون الضامن الأكبر لعملية تأمين الخروج الرئاسى من المشهد السياسى.
وعلى اى حال فأنه من المسلم به أن وضع مصر والنظام بعد 25 يناير مغاير تماما لما هو قبل هذا التاريخ لكن ضروريات تأمين الخروج ومحاولة الاطمئنان على غلق كثير من الملفات التى يمكن أن تفتح بعد هذا الخروج هو ما جعل النظام يستغل كل مقوماته بداية من تاريخه العسكرى المشرف وانتماؤه إلى المؤسسة العسكرية والتى تحظى باحترام كل طوائف الشعب والتى لا تقبل أن يهان رمز من رموزها بهذا الشكل أيا كانت حجم التجاوزات المرتكبة فى الفترة الماضية والمعروفة للقاصى والدانى وصولا إلى محاولة إقناع الشعب بان النظام قد امن أخيرا بمشروعية مطالب الشباب وحقهم فى الإصلاح والتغيير وبان النظام وبجدية تامة سوف يشرف على هذا التغيير ليختتم مسيرته الطويلة فى رعاية مصالح الشعب مع محاولة إضافة عملية الإصلاح السياسى الحالى لقائمة انجازات النظام وفى غضون ذلك تبدأ عملية تفريغ بالون الغضب الشعبى ببعض القرارات مثل محاسبة المقصرين واللصوص وإجراء التحقيقات لضمان القصاص العادل ممن التهموا قوت الشعب وقمعوا حريته إلى أخر هذا السيناريو، وان كنت أشك أن تنطلى هذه المحاولات على الشعب فما يمتلكه النظام من سجل سابق لمدة ثلاثون عاما جعلت الأعمى يبصر والأصم يسمع وغائب الوعى يسترد وعيه ومع استمرار تقديم التنازلات يرتفع سقف طموحات الشباب ومن وراؤهم الشعب إلى عنان السماء وبين عمليات الشد والجذب السياسى مع تفاوت رغبة الشعب بين التغيير و الإصلاح وبين رغباتهم فى الأمان و الرغيف تدور معادلات المشهد السياسى فى مصر الآن وهذا ما سوف تنجلى عنه الأيام فى المستقبل القريب وان كانت الشواهد تشير إلى أن أبناء ميدان التحرير فى القاهرة وأبناء جامع القائد إبراهيم فى الإسكندرية ذلك الشباب الواعى الذى بث الدماء الطازجة فى جسد الأمة المتيبس مصممون تماما على مطلبهم الرئيسى (الشعب يريد إسقاط النظام) وغير قابلين للحوار فى ذلك بل أنهم يصعدون درجة اعلى يوما بعد يوم فيصبح الهتاف ( الشعب يريد محاكمة النظام) مما يزيد من درجات التصعيد ويصبح توقع المشهد الختامى لهذه الأحداث مرهون بقدرة كلا الطرفين على تحمل ضغوط الطرف الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق